تأمليـة طبيعـة


تأمليـة طبيعـة


دعاني رفاقي عبر مجموعتنا التواصلية لرحلة برية ، فاعتذرت وعذرت لظروف سفر ، هم أشملوا ، وأنا أنجدت ، فلكل وجهة هو موليها ، ثم بدأت أصابعهم الموثقة تقتنص إبداعا ، وترسل صورا جمالية من ربيع الشمال وفياضه الساحرة ، تبعث في أرواحنا الأنس والانتعاش عبر شاشات جوالية كفية محمولة ، فأحدقت العين تأملا ، واستفاض الفكر قائلا : يا أصدقاء ، هنيئا لكم رائحة المطر الممزوج بالثرى ، تأملوها بجميع حواسكم ، فالطبيعة جمال ، والجمال هو الطبيعة ، ولابد أن يلحقكم من جمالها شعور تعيشون به أنس الحياة ولذاذتها ، فعيشوا أنسكم يارفاق ، بين ألوان الطبيعة المتنوعة المخلوقة ، وعظموا خالقها ، زرقة في السماء صافية ، وخضرة ربيع ضافية ، وحمرة أرض أصيلة ، ومائية سيل فضية مترقرقة ، وهواء يداعب الأوجان ببرودة لاسعة ، فتظهر بصماته في محياكم حمرة وسمرة ، أما أنا ففي لحظات تأمل عميق رقيق دقيق ، ومع ألوان متنوعة في طبيعة أخرى ، بين إبر ذات ثقوب حادة ، عقربية اللسعة ، لكنها دواء ، وبين هواء يمر عبر أنبوبة موزعة يحاكي ضبابا عابرا بلا انتعاش ، وأمام عيني قطنات قطن بيضاء على مريض لم يعد للبياض معها طعما ، وثياب زرقاء تحاكي زرقة السماء لكنها إلى زرقة السم أقرب ، وأجهزة تتلاسن لكنها بيد بشر عاقل ، وقطرات مغذ تتقاطر بتوافقية مع نبضات قلب ، لها مع الزمان والمكان والإنسان أسرار وأسرار ، فما أصعب متأملها عندما يعيش إحساسه بين عددين وعدادين ! ، قلب ينبض ومغذ يقطر ، تتسلسل قطرات المغذي في سليك بلاستيكي يحاكي عرقا يفيض مع آخر ، لتستشعر بقية العروق ذلك الغذاء بلا طعم ولا نكهة ولا لذاذة . عجيبة طقوس المرض والمرضى لمن تأملها في أماكن تنويمهم ، فنومهم سهسهة ، وأعينهم إغفاءة ذئب سارقة ، وأنينهم صوت ألم ناطق ، يضيع أحيانا لتبادله أجهزة طبية بأصوات حادة ، وأخرى خشنة ، وأخرى ناعمة ، على نبرة واحدة ليس فيها إمتاع ! ، بل هي أوجاع تمرض الروح الرقيقة الدقيقة العميقة لمن تأمل ، وربما استنطق منها الحكيم العميق بعض الصفات الإنسانية الضرورية للبشر وللحياة أجمع ، كالصبر والعطاء والنظام والتحمل …. ، يلف المشفى هدوء رهيب غريب عجيب ، حيث إن بعض الهدوء ضجيج بالغ ، يطحن المشاعر طحنا ، ويلهب الحنين والذكرى سعيرا ، ولربما لمحت العين سريرا يعلوه مريض ، يسوقه بشر بنفسية جدارية صامتة ، حاملين داءه ودواءه وغذاءه ، حيث للتو خرج من غرفة العمليات الطبية ، في هيأة كسيرة ، فتلقي عليه البشرى ، وتهديه تحية التهنئة بالسلامة ، فيرد التحية ببعض حروف مأكولة ، فيها ثقل لساني محسوس ، بين بنج مخدر وبين داء مستأصل ، بينية بين ألمين ، برودة الدواء ، وحرارة الداء ، فتعتذر له ؛ حيث أعقل الناس أعذرهم للناس ، خاصة لمن يمتلك العقل والإحساس . كم هي المشاهد المتأملة هناك التي تقرب بين الحياة والممات ! ، فالأسرة البيضاء الخارجة من غرف العمليات هي مثلها الخارجة من غرف الأموات ( الثلاجات ) ، وكم تقترب الكلمات الناطقة من البشر في ذاك المكان بتضادية مشاعر عجيبة ، فهذا يحوقل على مصاب ، وذاك يحمدل على فرحة ، وذاك يهلل على قلل مستقبل ، تدرك حينها التضاد المراد في الحياة كونا وقدرا وشرعا، بل وتعيش سنة الابتلاء الحياتية المتضادة في مكان وزمان واحد !، ووسع النظر والتأمل ليشمل المعمورة جمعاء ، بل كم يدرك المتأمل علاقة البشر الأحياء الأصحاء من الممرضين والأطباء مع هؤلاء المرضى والصرعى ، فيتأمل الفكر بهدوء كيف توزع الأرزاق من الابتلاء ذاته ، فمصائب قوم عند قوم فوائد ، فهذا مبضع جراح حاذق يتلاسن على داء ليسترزق منه رزقا تعرف برسوم الدواء ، وذاك يصنع علاجا له مع الأجساد والأرواح أسرار وأسرار ، وآخر له مع الأجهزة الطبية صداقة أقوى من المرضى المعالجين ! ، بل تعجب بتأمل من تسخير الله للبشر في الابتلاء ، فذاك يستأصل الداء ويسترزق ، وآخر يصنع الدواء ويأكل معاشه ولقمته ، وذاك يقوم بخدمة التمريض ويقبض قبضته . تدرك حينها : أن التأمل حياة ، والابتلاء سنة كونية وشرعية ، وكم من البشر سبب أرزاقهم ابتلاءات البشر فرحا وحزنا ، مرضا وشفاء ! ، بل تدرك يقينا أن المرض والموت والحزن والفرح والقلق ونتاج الشعور كله هي مصدر أرزاق لآخرين ، حيث إن مصيبتك هي فائدتهم بترقب حثيث حتى ولو لم ينطقوا ، فتأملوا جيدا تدركوا ماقلت ، فمدرسة التأمل أصحابها ناجحون ، ولكل مكان وزمان وإنسان طبيعة .


اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *