لـص فـي قاعـة اختبار .


لـص فـي قاعـة اختبار .



أيام قلائل وتبدأ اختبارات الفصل الثاني مؤذنة بنهاية عام دراسي منصرم ، إذ تتحول الفصول الدراسية ، وقاعات المحاضرات إلى قاعات اختبار وقياس تحصيل ، بتنظيم وترتيب مقصود من قبل إدارات الجامعات والمدارس كل فيما يخصه ، طلاب فصل يجاورهم طلاب فصل آخرين ، يفرغ المعلمون في تلك القاعات للملاحظة والمراقبة ؛ لتسهيل إجراءات توزيع الأسئلة ، ثم استقبالها مرة أخرى مشبعة مترعة بحبر المجد والنجاح ، حينها تؤخذ تواقيع الطلبة بكشف معتمد ، لتنظر بعد تأمل أن تلك التواقيع جرت بقلم طالب فنان ماهر جرها بحرفنة بديعة ؛ تفاؤلا بأن تكون على شيك مالي في مستقبل زمن . إن التوقيع هنا واجب مهني ، إذ هو إثبات لأداء الاختبار من قبل الطالب بكل أمانة وثقة وأريحية ، كما أنه مصداقية مهنة يتطلبها نظام تعليمي وزاري معتمد ، ومع لحظات تسليم الورقة واستلامها تشنف الأسماع دعوات صادقة من قبل الملاحظين لكل طالب بالتفوق والتوفيق ، ومواصلة الجهد لاختبار الغد ، مع طبطبة على كتفيه لحظة خروجه لتنفيس توتر اكتنزه جسد في قاعة الاختبار في لحظات انتهت في حالة صمت ، كان فيها القلم وحيد الصوت بصرصرته المعهودة . إن الملاحظة والمراقبة أثناء تأدية الطلبة اختباراتهم عمل يتقرب إلى الله به ، كيف ذلك ؟ وهي أمانة تتطلب وفاء على أحسن وجه ، وأكمل أداء ، حيث في قاعة الاختبار لابد أن يسود الهدوء والسكينة والاطمئنان ، وأن يسهم الملاحظ في ذلك قدر الإمكان ، بأن يكون عنصرا فعالا في صناعة تلك الأجواء ، كما يجب أن يكون لماحا لكل حركة ، فالحركات هنا عبارات ، ولغة الجسد لابد أن تستنطق في هذا المقام ، فربما حركة صدرت من طالب مريض تستدعي تدخلا ، وربما حركة أخرى بانت من طالب آخر ، تحكي أن سلطان النوم قد هجم على جسد أرهقه طول سهر ، مما يتوجب إيقاظه بكل أدب سلوك ، وبسملة لسان ، وربما حركة تعمد صاحبها الإشارة بها ؛ طلبا لسقيا الماء البارد الزلال ؛ دفعا لظمأ نشف الريق ، وتحول معه اللسان عظما ، بسبب سؤال لم يكن متوقعا في مادة ساعاتها كثيرة ، مما يستدعي إحضار الري المطلوب وتهيئته بأسرع وقت ، فالوقت في هذا المقام محسوب بدقة ، بل مشار عليه كتابة في أعلى الورقة بزاويتها اليسرى ، وهكذا الحركات تتوالى ، مما يتطلب يقظة الفكر ونباهة الذهن في زمن ذلك الاختبار كله من قبل الملاحظ الأمين ، إلا أن أصعب حركة تتعب الملاحظ من وجهة نظر مجرب ، حركة ذلك الطالب اللص الذي يحاول السطو على إجابات زملائه ممن يشابه أسئلته ، فتجده يتململ يمنة ويسرة ؛ محاولة لالتقاط شيء من شيء ، وربما حرك كرسيا وأردفه بتحريك طاولة بإزعاج مقيت ، استدعاء لانتباه زميل آخر يرعف قلمه إجابة صحيحة واثقة ، وربما صمت واستكان جسده ، وأخذ يمسح شاربه ويفتله فتلا بهدوء مع فركة خفيفة على أطرافه ، دفعا للشبهة ، وإيهاما للملاحظ والزوار أنه في لحظات تفكر وتذكر ! ، وربما أغمض رمشه ليدحج ببصره بمنهجية تدحيج عين مخيف ! ، يخشى أن تجحظ العين من مكانها من ضغط عليها لم تعد تتحمله . وربما أيضا أخرج وريقات مخفية تدعى باسم البراشيم صورت بتصوير مصغر دقيق من محل تصوير متعاون مع هؤلاء اللصوص الغششة ! ، هنا لابد من وقفة حازمة تجاه ماسبق بيانه ، بالتنبيه اللفظي والتوعوي والإرشادي أولا ، ثم باتخاذ الإجراء النظامي ثانيا ، كل ذلك لضبط قاعة الاختبار التي هي مكان للجميع ، ولحفظ الوقت المنصوص عليه ، بأن يستثمر استثمارا ناجحا ، حتى تقاس عملية التحصيل بكل دقة ، فعنصر الزمن أحد عناصر التقويم الناجح للعملية التعليمية التحصيلية . وأخيرا أهمس همسة : إن الغش كبيرة ذنب ، ومصدر وباء ، وخراب مجتمع ، ورذيلة سلوك ، واضمحلال قيم ، ونحر شيم ، وضياع حقيقة ، وسوء سمعة ، وضعف تربية ، وخسة تصرف ، وتزييف واقع ، فهيا أيها المعلمون والمعلمات لنكن يدا واحدة تجاه هذا المرض العضال ( الغش ) الذي إن تهاونا مع لصوصه ، فلا نلوم في المستقبل طبيبا غش مريضا ، أو مهندسا غش في عمله ، أو تاجرا غش في تجارته ، أو موظفا تهاون في أمانة وظيفته ، أو كاتبا تعفن حرفه ، … فأكثر الغشاشين والغششة في كل مجالات الحياة تبرمجوا على الغش وأساليبه في فصل دراسي قديم ، في سالف زمن ، تحت مرأى بشر لم يحرك ساكنا ، إنني في الحقيقة أخشى أن ثلوث كلمة النجاح بشهادات تزويرية لم يعد للنجاح فيها طعما ولالذاذة ولاحقيقة ، سوى شهادة قرطاسية مهرت بتوقيع مشبوه زورا وبهتانا .والله أسأل أن يوفق المختبرين في اختباراتهم ، ويرزقهم شهادة شريفة بدرجاتها أجمع ، وأن يكتب الغفران والهداية لمن يريد تلويث قاعاتنا ، وشهادات طلابنا بجريمة الغش النكراء .


اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *